الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
قال ابن إسحاق : وسرية زيد بن حارثة التي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، حين أصاب عير قريش ، وفيها أبو سفيان بن حرب على القردة ، ماء من مياه نجد . وكان من حديثها : أن قريشا خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكون إلى الشام ، حين كان من وقعة بدر ما كان ، فسلكوا طريق العراق ، فخرج منهم تجار ، فيهم : أبو سفيان بن حرب ، ومعه فضة كثيرة ، وهي عظم تجارتهم ، واستأجروا رجلا من بني بكر بن وائل ، يقال له : فرات بن حيان يدلهم في ذلك على الطريق . قال ابن هشام : فرات بن حيان ، من بني عجل ، حليف لبني سهم . قال ابن إسحاق : وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فلقيهم على ذلك الماء ، فأصاب تلك العير وما فيها ، وأعجزه الرجال ، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال حسَّان بن ثابت بعد أحد في غزوة بدر الآخرة يؤنب قريشا لأخذهم تلك الطريق : دعوا فلجات الشام قد حال دونها * جلاد كأفواه المخاض الأوارك بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك قال ابن هشام : وهذه الأبيات في أبيات لحسَّان بن ثابت ، نقضها عليه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ، وسنذكرها ونقيضتها إن شاء الله في موضعها . قال ابن إسحاق : وكان من حديث كعب بن الأشرف : أنه لما أصيب أصحاب بدر ، وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة ، وعبدالله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين ، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عز وجل عليه ، وقتل من قتل من المشركين ، كما حدثني عبدالله بن المغيث بن أبي بردة الظفري ، وعبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وصالح بن أبي أمامة بن سهل ، كل قد حدثني بعض حديثه ، قالوا : قال كعب بن الأشرف ، وكان رجلاً من طيىء ، ثم أحد بني نبهان ، وكانت أمه من بني النضير ، هذان حين بلغه الخبر : أحق هذا ؟ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان - يعني زيدا وعبدالله بن رواحة - فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس ، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم ، لبطن الأرض خير من ظهرها . فلما تيقن عدو الله الخبر ، خرج حتى قدم مكة ، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي ، وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، فأنزلته وأكرمته ، وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينشد الأشعار ، ويبكي أصحاب القليب من قريش ، الذين أصيبوا ببدر ، فقال : طحنت رحى بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر تستهل وتدمع قتلت سراة الناس حول حياضهم * لا تبعدوا إن الملوك تصرع كم قد أصيب به من أبيض ماجد * ذي بهجة يأوي إليه الضُيَّع طلق اليدين إذا الكواكب أخلفت * حمال أثقال يسود ويربع ويقول أقوام أُسرُّ بسخطهم * إن ابن الاشرف ظل كعبا يجزع صدقوا فليت الأرض ساعة قتِّلوا * ظلت تسوخ بأهلها وتصدَّع صار الذي أثر الحديث بطعنه * أو عاش أعمى مرعشا لا يسمع نبئت أن بني المغيرة كلهم * خشعوا لقتل أبي الحكيم وجُدعوا وابنا ربيعة عنده ومنبه * ما نال مثل المهلكين وتبع نبئت أن الحارث بن هشامهم * في الناس يبني الصالحات ويجمع ليزور يثرب بالجموع وإنما * يحمى على الحسب الكريم الأروع قال ابن هشام : قوله " تبع "، "وأسر بسخطهم ". عن غير ابن إسحاق . ما رد عليه حسَّان رضي الله عنه قال ابن إسحاق : فأجابه حسَّان بن ثابت الأنصاري ، فقال : أبكي لكعب ثم عل بعبرة * منه وعاش مجدعا لا يسمع ولقد رأيت ببطن بدر منهم * قتلى تسح لها العيون وتدمع فابكي فقد أبكيت عبدا راضعا * شبه الكليب إلى الكليبة يتبع ولقد شفى الرحمن منا سيدا * وأهان قوما قاتلوه وصرعوا ونجا وأفلت منهم من قبله * شغف يظل لخوفه يتصدع قال ابن هشام : وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسَّان . وقوله : "أبكى لكعب "عن غير ابن إسحاق . قال ابن إسحاق : وقالت امرأة من المسلمن من بني مُريد ، بطن من بلى ، كانوا حلفاء في بني أمية بن زيد ؛ يقال لهم الجعادرة ، تجيب كعبا - قال ابن إسحاق : اسمها ميمونة بنت عبدالله ، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه الأبيات لها ، وينكر نقيضتها لكعب بن الأشرف : تحننَ هذا العبد كل تحنن * يبكى على قتلى وليس بناصب بكت عين من يبكي لبدر وأهله * وعلَّت بمثليها لؤي بن غالب فليت الذين ضُرِّجوا بدمائهم * يرى ما بهم من كان بين الأخاشب فيعلم حقا عن يقين ويبصروا * مجرهم فوق اللحى والحواجب ما أجابها به كعب بن الأشرف فأجابها كعب بن الأشرف ، فقال : ألا فازجروا منكم سفيها لتسلموا * عن القول يأتي منه غير مقارب أتشتمني أن كنت أبكي بعبرة * لقوم أتاني ودهم غير كاذب فإني لباك ما بقيت وذاكر * مآثر قوم مجدهم بالجباجب لعمري لقد كانت مريد بمعزل * عن الشر فاحتالت وجوه الثعالب فحق مريد أن تجد أنوفهم * بشتمهم حيي لؤي بن غالب وهبت نصيبي من مريد لجعدر * وفاء وبيت الله بين الخاشب ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كما حدثني عبدالله بن المغيث بن أبي بردة ، من لي بابن الأشرف ؟ فقال له محمد بن مسلمة ، أخو بني عبدالأشهل ، أنا لك به يا رسول الله ، أنا أقتله ؛ قال : فافعل إن قدرت على ذلك . فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاه ، فقال له : لم تركت الطعام والشراب ؟ فقال : يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفين لك به أم لا ؟ فقال : إنما عليك الجهد ، فقال : يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول : قال : قولوا ما بدا لكم ، فأنتم في حل من ذلك . فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة ، وسلكان ابن سلامة بن وقش ، وهو أبو نائلة أحد بني عبدالأشهل ، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة ، وعباد بن بشر بن وقش ، أحد بني عبدالأشهل ، والحارث بن أوس بن معاذ ، أحد بني عبدالأشهل ، وأبو عبس بن جبر ، أحد بني حارثة . ثم قدموا إلى عدو الله كعب بن الأشرف ، قبل أن يأتوه ، سلكان ابن سلامة ، أبا نائلة ، فجاءه ، فتحدث معه ساعة ، وتناشدوا شعرا ، وكان أبو نائلة يقول الشعر ، ثم قال : ويحك يابن الأشرف ! إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك ، فاكتم عني ؛ قال : افعل ، قال : كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء ، عادتنا به العرب ، ورمتنا عن قوس واحدة ، وقلعت عنا السبل حتى ضاع العيال ، وجهدت الأنفس ، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا ؛ قال كعب : أنا ابن الأشرف ، أما والله لقد كنت أخبرك يابن سلامة ، إن الأمر سيصير إلى ما أقول ، فقال له سلكان : إني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك ، ونحسن في ذلك ؛ فقال : اترهنوني أبناءكم؟ قال : لقد أردت أن تفضحنا ، إن معي أصحابا لي على مثل رأي ، وقد أردت أن آتيك بهم ، فتبيعهم وتحسن في ذلك ، ونرهنك في الحلقة ما فيه وفاء ، وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها؛ قال : إن في الحلقة لوفاء ؛ قال فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره ، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ، ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه ، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن هشام : ويقال : أترهنوني نساءكم ؟ قال : كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم ، قال : أترهنوني أبناءكم ؟ قال ابن إسحاق : فحدثني ثور بن يزيد ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ، ثم وجههم ، فقال : انطلقوا على اسم الله ؛ اللهم أعنهم ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ، وهو في ليلة مقمرة ، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ، فهتف به أبو نائلة ، وكان حديث عهد بعرس ، فوثب في ملحفته ، فأخذته امراته بناحيتها ، وقالت : إنك امرؤ محارَب ، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة ، قال : إنه أبو نائلة ، لو وجدني نائما لما أيقظني ، فقالت : والله إني لأعرف في صوته الشر ، قال : يقول لها كعب : لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب . فنزل فتحدث معهم ساعة ، وتحدثوا معه ، ثم قال : هل لك يا بن الأشرف أن تتماشى إلىالشعب العجور، فنتحدث به بقية ليلتنا هذه ؟ قال : إن شئتم . فخرجوا يتماشون ، فمشوا ساعة ، ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ، ثم شم يده فقال : ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط ، ثم مشى ساعة ، ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ، ثم مشى ساعة ، ثم عاد لمثلها ، فأخذ بفود رأسه ، ثم قال : اضربوا عدو الله ، فضربوه فاختلف عليه أسيافهم ، فلم تغن شيئا . قال محمد بن مسلمة : فذكرت مغولا في سيفي ، حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئا ، فأخذته ، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقدت عليه نار ، قال : فوضعته في ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ، فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ ، فجرح في رأسه أو في رجله ، أصابه بعض أسيافنا . قال : فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد ، ثم على بني قريظة ، ثم على بعاث ، حتى أسندنا في حرة العريض ، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ، ونزَّفه الدم ، فوقفنا له ساعة ، ثم أتانا يتبع آثارنا . قال : فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل ، وهو قائم يصلي ، فسلمنا عليه ، فخرج إلينا ، فأخبرناه بقتل عدو الله ، وتفل على جرح صاحبنا ، فرجع ورجعنا إلى أهلنا ، فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله ، فليس بها يهدوي إلا وهو يخاف على نفسه . قال ابن إسحاق : فقال كعب بن مالك : فغودر منهم كعب صريعا * فذلت بعد مصرعه النضير على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور بأمر محمد إذ دس ليلا * إلى كعب أخا كعب يسير فما كره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور قال ابن هشام : وهذه الأبيات في قصيدة له في يوم بني النضير ، سأذكرها إن شاءالله في حديث ذلك اليوم . قال ابن إسحاق : وقال حسَّان بن ثابت يذكر قتل كعب بن الأشرف وقتل سلام بن أبي الحقيق : لله در عصابة لاقيتهم يابن ال * حقيق وأنت يابن الأشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحا كأسد في عين مغرف حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفا ببيض ذفَّف مستنصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف قال ابن هشام : وسأذكر قتل سلاَّم بن أبي الحقيق في موضعه إن شاء الله . وقوله : "ذفَّف "، عن غير ابن إسحاق قال ابن إسحاق : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ) فوثب محيصة بن مسعود . قال ابن هشام : محيصة ويقال محيصة بن مسعود بن كعب بن عامر بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرح بن عمرو بن مالك بن الأوس - على ابن شنينة - قال ابن هشام : ويقال شنينة - رجل من تجار يهود ،كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم ، وكان أسن من محيصة ، فلما قتله جعل حويصة يضربه ، ويقول أي عدو الله ،أقتلته ؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله . قال محيصة : فقلت : والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك ، قال : فوالله إن كان لأول الإسلام حويصة قال : آولله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني ؟ قال : نعم ، والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها ! قال : والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب ، فأسلم حويصة ، قال ابن إسحاق : حدثني هذا الحديث مولى لبني حارثة ، عن ابنة محيصة ، عن أبيها محيصة . قال محصية في ذلك : يلوم ابن امي لو أمرت بقتله * لطبّقت ذفراه بأبيض قاضب حسام كلون الملح أُخلص صقله * متى ما أصوّبه فليس بكاذب وما سرني أني قتلتك طائعا * وأن لنا ما بين بصرى ومأرب
|